تُجرى غالبية الأبحاث العلمية بهدف الحصول على ترقية في المؤسسات الأكاديمية في ظل حالة تواضع النشر العلمي للجامعات، وليس للوصول إلى اكتشاف أو لحل مشكلة مجتمعية أو علمية.
“بحث علمي لم يتجاوز المهد”
وعبر الأستاذ المشارك في قسم الكيمياء في الجامعة الأردنية عبد السلام قرعوش عن صدمته بعد عودته للأردن من رحلة علمية لسنوات في الجامعة التقنية في مدينة ميونيخ، فالبنية التحتية العلمية تكاد أن تكون معدومة في الجامعات المحلية الرسمية، ولا تسهم في تنمية البحث العلمي، أو الابتكار، وهذا ما انعكس سلبا على أعضاء الهيئات التدريسية، والباحثين على حد وصفه.
يقول قرعوش:” البحث العلمي لم يتجاوز مرحلة المهد في جامعاتنا، فمن الصعوبة بمكان أن يستطيع الباحث نقل تجربته العالمية إلى المحلية، ففي الغرب يتم استقطاب الخريجين، والباحثين، وتقديم الدعم اللوجستي، والمادي لهم من أجل إتمام البحث، وتتوفر لهم الأجهزة كافة، فتتشابك المجموعات البحثية في مختلف القطاعات الصناعية، والهندسية، والكيمياء لإيجاد حلول واقعية حول ظواهر مجتمعية محددة، أو لتحقيق أهداف علمية بحتة”.
لكن الصورة قد تبدو معاكسة في الجامعات المحلية، فتبدأ معاناة الكادر التدريسي لحظة الاشتباك مع الإجراءات البيروقراطية المتعلقة بالحصول على تمويل من إدارة البحث العلمي في الجامعة لإتمام البحث على ما قاله قرعوش، ويضيف:” أنظمة معقدة داخلية تحد من إتمام الأبحاث العلمية في جامعاتنا، فتعدد مراجع الموافقات اللوجستية، وقصور التعليمات التي تشجع الأبحاث العلمية، والحوافز، تقف بالمرتبة الأولى أمام تراجع الانتاج البحثي والابتكاري في الجامعات الأردنية خلال عام 2020، وهذا بدا واضحا في تقرير حالة البلاد أيضا.
يشير تقرير حالة البلاد الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى تواضع النشر العلمي للجامعات، وضعفه، بالتزامن مع ندرة الأبحاث الابتكارية الريادية، وبراءات الاختراع، إذ وصل مجموع الأبحاث المنشورة للجامعات الأردنية مجتمعة في مجلات مصنفة في محرك البحث ” SCOPUS” إلى 43423 بحثا منذ تأسيس أول جامعة أردنية ووصولا إلى عام 2019.
وترد مقارنة في التقرير أن مجموع ما نشرته الجامعات الأردنية من أبحاث خلال 60 عاما لا يساوي نصف ما نشرته جامعة “نانياج” السنغافورية “105918 بحثا ً” كذلك أقل مما نشرته جامعة طهران الذي وصل إلى “55758 بحثا” أو جامعة الملك سعود “54682 بحثا”.
يُعرف البحث العلمي على أنه تطبيق مجموعة مختلفة من الأساليب العلمية الممنهجة لجمع المعلومات الموثوقة، بهدف الوصول إلى معرفة جديدة، بالإضافة إلى نظريات تطبيقية، أو قوانين، فهو الخطوة الأولى والأمثل لفهم التحديات، والتطلعات التي نواجهها بشكل يومي وتؤثر على حياتنا بطريقة مباشرة، كما تقول مديرة صندوق البحث العلمي في مؤسسة عبد الحميد شومان أمل أبو ليل.
وقال أستاذ الهندسة الكيميائية في الجامعة الأردنية محمد رسول قطيشات، إن أغلب التوجهات البحثية في يومنا الحالي من أعضاء الهيئات التدريسية بإجراء بحوث علمية، لأجل الترقية، وليس بغية حل المشكلة، أو تغيير واقع حال قائم، فالتشريعات القانونية في الجامعات المحلية حدَت من إنتاج الأبحاث العلمية، ووضعت الكثير من الأعباء التدريسية على كاهل المدرسين.
وتكمن أهمية البحث العلمي وفق رئيس مجلس أمناء جامعة الشرق الأوسط يعقوب ناصر الدين في أنه “عصب الحياة الحضارية، وأساس رفعة الدول التقدمية وتطورها، فهو يشكل المعارف الاقتصادية، والاجتماعية، ويساهم في حل المشكلات، ودفع عجلة المعرفة، والعلم على شتى الأصعدة، الطبية منها، والعلوم الحياتية، والمعرفية، وهو يقدم خدمات جليلة للمجتمع، وهذا ما كان واضحا خلال جائحة كورونا، فلم ينته هذا الوباء لولا سيل الأبحاث غير المسبوق في هذا المجال”.
ويضيف ناصر الدين:” يشترط نظام الهيئة التدريسية بالجامعة الأردنية، لمن يعين مدرسا في الجامعة، أن ينشر أو يقبل له النشر ما لا يقل عن بحثين في مجال تخصصه غير مستل أي منهما من الرسائل الجامعية، وأن يكون باحثا رئيسا في إحداهما وذلك بعد حصوله على درجة الماجستير، وبالتالي أصبح الغاية من نشر البحث، قبوله في الجامعة، أو لغاية حصوله على الترقية إلى رتبة أستاذ مشارك، فلا يوجد شيء في النظام يحدد طبيعة اختيار المواضيع، أو مدى أهميتها، وحاجة المجتمع لها.
تشترط المادة السابعة من نظام الهيئة التدريسية في الجامعة الأردنية، لمن يعين برتبة أستاذ مساعد في الجامعة أن يكون حاصلا ً على درجة الدكتوراة (PHD) أو ما يعادلها من جامعة معترف بها، أو أن يكون حاصلاً على شهادة مهنية سارية المفعول أو شهادة فنية في التخصص تعادل درجة الدكتوراه من مؤسسة أكاديمية أو مهنية معترف بها، وأن يكون قد نشر، أو قبل، له للنشر بعد حصوله على الدكتوراه بحثين في مجال تخصصه وأن يكون باحثا رئيسا في أحدهما وذلك في مجلة معتمدة وفقا لتعليمات تصدر لهذه الغاية.
البحث العلمي استثمار طويل الأجل!
وقال أستاذ الهندسة الكيميائية في الجامعة الأردنية محمد رسول قطيشات، إن “أغلب الجامعات الرسمية تنتهج ذات الطريقة، فجلهم يذهبون لإجراء بحوث أكاديمية، وليس إنمائية موجهة نحو حل مشكلة ما، أو إشكالية يعاني منها أبناء المجتمع، فيتم تأطير العمل وفق قوانين عقيمة، مرتبطة بميزانية ثابتة يمنع على الباحث أن يتجاوزها، خلال مراحل بحثه، كما تلزمه التشريعات بضرورة رؤية النتائج خلال أشهر أو أيام، أو حتى مردود مادي، وهذا أشبه بمعجزة، فالأستثمار بالبحث العلمي يحتاج إلى سنوات، ويطلق عليه استثمار طويل الأجل”.
ويضيف قطيشات: يثقل كاهل أعضاء الهيئات التدريسية بالتعليم، والتحضير، وإجراء الأبحاث، ولا يؤخذ بعين الاعتبار حاجتهم للتفرغ لغاية إجراء أبحاث نوعية، بعيدا عن الابحاث التطبيقية، التي قد تلبي احتياجات المجتمع المحلي، فالأغلب يتوجه إلى الأبحاث النظرية، لغاية حصوله على الترقية فحسب.
“الكثير من المحددات تقف أمام أعضاء الهيئات التدريسية أثناء إجراء الأبحاث العلمية، أبرزها ضعف التمويل، سواء أكان من عمادات البحث العلمي في الجامعات الرسمية، أو من خلال صندوق دعم البحث العلمي والابتكار الذي أصبح اليوم يتبع بشكل مباشر إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بالتزامن مع ضعف ربط الأبحاث العلمية مع احتياجات المجتمع عندما نتحدث عن جوانب إقتصادية، وصناعية، فمن الممكن الحصول على تمويل من خلال القطاع الخاص بدلا من الجهات الرسمية، التي غالبا ما تضع العصا في الدولاب أمام أعضاء الهيئات التدريسية” وفق رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي موسى شتيوي.
لكن رئيس الجمعية الأردنية للبحث العلمي والريادة والإبداع رضا الخوالدة، لا يرى في ضعف التمويل مشكلة رئيسية قد تحد من إنتاج الأبحاث الجامعية وفق ما قاله لـ”المملكة” فتصرف سنويا 5% من موازنات الجامعات الرسمية على البحث العلمي، والابتعاث لاعضاء الهيئات التدريسية، في حال عدم إنفاقها لهذه المبالغ تجبر الجامعات على إعادتها إلى صندوق البحث العلمي، فالمشكلة تكمن في حالة الإحباط، وفقدان الشغف لدى أعضاء الهيئات التدريسية، بعدم إقبالهم على إجراء أبحاث علمية، إضافة إلى وجود مؤسسات خاصة عملت خلال السنوات الماضية على تقديم الدعم المالي واللوجستي للباحثين.
وأشارت مديرة صندوق البحث العلمي في مؤسسة عبد الحميد شومان، إلى إطلاق المؤسسة عام 1982 جائزة عبد الحميد شومان للباحثين العرب، والتي أعتبرت آنذاك “أرفع” جائزة تحتفي بالباحثين وتقدم الدعم المالي لهم، وذلك من خلال سلسلة من البرامج التي انطلقت من الأردن لدعم الباحثين، كذلك خصص صندوق خاص لدعم الأبحاث العلمية، والمشاريع البحثية الأردنية وقدم الدعم المادي، والتقني، لجميع الأبحاث حتى نفذت ونشرت في مجلات عالمية، واليوم يحتفل الصندوق بدعم أكثر من 140 مشروعا بحثيا، وصلت قيمتهم لأكثر من مليون ونصف دينار أردني على مدار السنوات الماضية، ونتج عن هذه المشاريع البحثية أكثر من 150 ورقة علمية منشورة في مجلات محكمة.
وتضيف أبو ليل بأن الدعم المقدم من المؤسسة يقسم إلى قسمين، منها الأبحاث العلمية وهي الأبحاث الأساسية التي تهدف فيما بعد لإنتاج المعرفة العلمية التطبيقية، ليتم تحويلها فيما بعد إلى تطبيقات عملية وفي مختلف المجالات منها، العلوم الاجتماعية، والإنسانية على وجه التحديد فلها دور أساسي وكبير، بفهم التحديات المجتمعية، وإجراء دراسات موضوعية قابلة للتطبيق.
استراتيجية وطنية تجمع الباحثين!
وبشأن عدم التطور في إنتاج الأبحاث العلمية خلال السنوات الماضية، قال أستاذ الإنثروبولوجيا السياسية في جامعة اليرموك عبد الحكيم الحسبان: على مدار السنوات الماضية رصد أعضاء الهيئات التدريسية تحولات كبيرة في التوجهات نحو تمكين الأبحاث العلمية، وإيجاد بنية تحتية مناسبة تدعم الباحثين، فمقارنة بسيطة بين ما تنفقه الدولة على التعليم، وما ينفق على القطاعات الأخرى، تجد أن الأولوية تذهب الى التعليم، فتوضع حصة مناسبة من الناتج القومي لهذه الاستثمار كونه طويل الأجل، ويحتاج إلى سنوات على أرض الواقع حتى ترى نتائج ملموسة.
يقول الحسبان: “مقاربة واقعية لعمر الدولة قبل ما يقرب 100 عام من تاريخ التأسيس لم تكن لدينا جامعات رسمية، واليوم نتحدث عن نحو 30 جامعة ما بين حكومية وخاصة، بالتزامن كان لدينا 10 مدارس في جميع المحافظات، واليوم يزيد عدد المدارس عن 4 آلاف مدرسة، كذلك بقياس أعداد حملة الدكتواره في المملكة في جميع التخصصات، وشهادات الماجستير، أو حتى البكالوريوس، وعدد المختبرات الرسمية، والأبحاث العلمية، فالدولة اليوم تتوجه نحو توسيع الأهتمام في إجراء أبحاث علمية، لكنها تحتاج إلى الوقت الطويل، وإستراتيجية ثابته، وواضحة الملامح.
و”يتوجه العالم اليوم إلى إيجاد مراكز أبحاث علمية داخل الجامعات، ومن خلال توفير بنى تحتية مناسبة، وكادر مؤهل لتحديد الأولويات البحثية، وتدريب الباحثين، وأعضاء الهيئات التدريسية حال رغبتهم في إجراء أبحاث علمية تعود بالفائدة على المجتمع” كما يؤكد رئيس مجلس أمناء جامعة الشرق الأوسط يعقوب ناصر الدين، ويضيف يتوجب إجراء اختبارات محددة لفحص الباحثين قبل الشروع في البحث، وذلك لتحفيزهم على العمل، ورفع القدرة التنافسية فيما بينهم، فالشغف هو أولى خطوات الباحثين.
كما يرى عميد كلية العلوم في جامعة الحسين بن طلال إبراهيم الرواشدة، أن الحل يكمن في وضع استراتيجية وطنية تعنى بالبحث العلمي وأولوياته، وإيجاد قاعدة بيانات تربط الباحثين في المملكة، بالإضافة إلى توحيد الجهود بين مختلف الجهات الرسمية بالتعاون ما بينهم حال إجراء أبحاث علمية، بدلا من “حالة التخبط” التي يمر بها الباحثون في الجامعات الرسمية، بالتزامن مع توزيع الموارد المالية على المحافظات بحسب أولويات البحث، فالجنوب يعاني اليوم من التهميش في المخصصات بشكل كبير، فالمعاناة التي يجدها الباحث في الجنوب أضعاف ما يتعرض لها الباحث في الشمال.
وستساهم الاستراتيجة الوطنية حال الاتفاق عليها وتبنيها من مؤسسات الدولة كافة على تقليل الفجوة الزمنية، والثقافية، والتكنولوجية، التي يعاني منها الباحثون في العالم العربي مقارنة بالدولة الأوروبية على سبيل المثال، كما يقول الحسبان، لكنه في ذات الوقت يتخوف من فكرة تمركز السلطة البحثية في يد بعض الأشخاص، فالعقل المركزي كما يرى ساهم في عمل نسخ مكررة داخل الجامعات الرسمية من الأبحاث، وحرمان الباحثين في الجنوب من إجراء أبحاث نوعية، من خلال الوقوف على الاحتياجات الاجتماعية، والاقتصادية لأفراد المجتمع بحسب أنماط المعيشة لديهم.
المملكة
نسخ رابط الخبر: https://almoather.news/?p=33481