مرح غيث
علّمتنا غزّة أنّ الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع من بين أنياب الألم، وأنّ العبور نحو النور لا يكون إلّا بعد السير على جمر الفقد والصبر.
ما بعد الحرب ليس مجرّد نهاية لمعركةٍ دامت شهورًا، بل هو بداية وعيٍ جديدٍ، وولادة جيلٍ يعرف أن أثمان الكرامة غالية، تبدأ بالسجن وتنتهي بالشهادة، ولكنّها لا تنتهي أبدًا بالهزيمة.
غزّة لم تخرج من تحت الركام فحسب، بل خرجت من بين صفحات التاريخ لتكتب سطورًا جديدة من البطولة، تُعلّم العالم أن الصمود ليس خيارًا، بل هو قدرُ الأحرار.
كلُّ حجرٍ فيها صار شاهدًا، وكلُّ طفلٍ صار رمزًا، وكلُّ أمٍّ تبكي شهيدها إنما تزرع في الأرض بذرة انتصارٍ قادم.
لكنّ ما بعد الحرب، لا يُقاس بالدمار وحده، بل بما سنفعله بعده.
إنّ إعمار غزّة ليس مشروعًا هندسيًا، بل مشروعُ ضميرٍ إنسانيٍّ وأمّةٍ وفاء.
كلّ تبرّع، مهما كان صغيرًا، هو حجرٌ في بيتٍ مهدوم، وجرعةُ دواءٍ لطفلٍ أنهكه الجوع، ورسالةُ حبٍّ تقول: لسنا بعيدين عنكم، نحن أنتم.
فغزّة لا تنتظر الشفقة، بل تحتاج الشراكة؛ تحتاج الأيادي التي تبني، لا العيون التي تكتفي بالبكاء.
وفي هذه المسيرة المضيئة، يسطع دور الأردنّ البهيّ — بلد المواقف النبيلة التي لم تتغيّر.
منذ اليوم الأول، كان الأردنُّ الأقرب إلى الوجع الفلسطينيّ، والأسبق في إغاثة المصابين، وفتح المستشفيات الميدانية، وإرسال القوافل الطبية والإغاثية.
إنّها الأخوة التي لا تصدأ، والعروبة التي لا تُشترى، فالهاشميون ظلّوا وما زالوا حراس القدس ووجدان فلسطين.
وغزّة اليوم ترفع يدها للسماء شاكرةً كلّ من جعل من الإنسانية موقفًا لا شعارًا، ومن الجار سندًا لا متفرّجًا.
غزّة ما بعد الحرب لن تكون كما كانت، ولن نكون نحن كما كنّا.
لقد تعلّمنا أن نرى ما وراء الدخان، وأن نسمع ما بعد الصمت، وأن نفهم أنّ الحروب لا تُقاس بعدد القتلى ولا بالخراب، بل بما تُخلّفه من وعيٍ وإصرارٍ وكرامة.
وإن كانت الحرب قد انتهت، فإنّ معركة الوعي بدأت — معركة حفظ الحكاية من التزييف، ونقلها للأجيال كما هي: حكاية شعبٍ أحبّ الحياة، فواجه الموت ليصونها.
كيف ستكون غزّةَ المتوهّجةِ بالنور بعد انتهاء الحرب؟
ستكون غزّة التي تُعيد تعريف الضوء بعد أن سكنها الظلام طويلًا.
مدينة تنفض الغبار عن كتفيها، تزرع الورد في مكان الركام، وتحوّل صوت الأذان إلى نشيد حياةٍ جديد.
لن تُبنى غزّة بالحجارة وحدها، بل بالعزيمة والإيمان، وبالأحلام التي لم تمت رغم كلّ شيء.
ستكون غزّة مدرسةً تُخرّج أحرارًا لا يهابون الجراح، وفجرًا يُعلّم العالم أن من يُحبّ أرضه، لا يُهزم أبدًا.
غزّة ما بعد الحرب ليست نهاية الحكاية، بل بدايتها الحقيقية —
بداية وطنٍ يُعيد بناء نفسه بالحبّ، وبالكرامة، وبالإنسان الذي أدرك أنّ الحرية لا تُمنح، بل تُبنى كما تُبنى البيوت: حجرًا فوق حجر، وإيمانًا فوق جراح.
نسخ رابط الخبر: https://almoather.news/?p=60698

